وامرأة.. مهزومة عسكرياً أيضاً.
وامرأة.. تعاني من ذل القهر والأسر بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية.
امرأة.. تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها.. حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها وعلى أحبتها وبقتلهم وإبادة خضرائهم..
امرأة.. ترافقها رؤوس أبنائها وإخوتها وغيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح. بشكل يفتت الأكباد ويدمي القلوب..
امرأة.. هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل والأيتام والأسرى والأطفال.. وقضاء حاجاتهم والإشراف على كل حركاتهم..
وامرأة.. قد عانت من مشاق السفر ومتاعبه ما فيه الكفاية..
وامرأة.. لم لكن لها سلطان أو ملك تعتز به، أو تعتمد عليه..
وامرأة.. تقدم على مستقبل مجهول وقاتم ولا تعرف مصيرها فيه ولا مصير كل أهلها وذويها..
وامرأة.. لم تعرف البذخ والترف والنعيم والرخاء، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك وأبنائهم.
امرأة.. مهما توقعنا منها.. فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار، وتنهزم وتبكي وتنتحب وتعجز..
نعم.. هذه المرأة بالذات، وبهذه الخصائص والمميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله، وتسحق شخصيته ووجوده بقدميها – تقف في وجهه، والمواجهة أصعب من الغيبة وعلى بساطه وفي دار ملكه. ويزيد هو من قدمنا تقف وبقوة إيمانها، وصادق عزيمتها لتقول له، وللعالم أجمع: إنها هي التي انتصرت في المعركة، ويزيد – يزيد فقط هو الخاسر المغبون ولا خاسر غيره..
تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها، ولتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة، ولا يطغى على مواقفها العجز، ولا الضعف والوهن..
نعم.. هذه المرأة تقف في وجه يزيد، وفي دار ملكه، وعلى بساطه وبين جنده، ورجال ملكه، وهي تعاني من ذل الأسر، والقهر، والعدم والثكل.. تقف في وجهه لتقول له –
عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري:
ليت أشياخي ببدر شهدوا لأهـلـوا واستهلوا فرحاً قد قتلنا القرم من ساداتهم | | جزع الخوارج من وقع الأسل ثـم قـالـوا: يا يزيد لا تشل وعـدلنـاه بـبـدر فـاعتدل |
ثم زاد عليها قوله:
لعبت هـاشم بـالملك فـلا لست من خندف إن لم انتقم | | خبر جـاء ولا وحي نـزل من بني احمد مـا كان فعل |
تقف لتقول له – على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء / ص21 والخوارزمي في مقتل الحسين / ج2 ص64:
"الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه، حيث يقول: ?ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله، وكانوا بها يستهزؤون?.
أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى: أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة ؟ وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة. وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: ?ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين?.
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك، وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟ قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي، ولا من رجالهن ولي..
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟!.
وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن، والأضغان ؟!.
ثم تقول غير متأثم، ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحاً | | ثم قالوا: يا يزيد لا تشل |
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله، سيد شباب اهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟!.
وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت.
اللهم، خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، وأحل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا..
فوالله، ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم: ?ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يزقون..?.
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم من سول لك، ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شر مكاناً، وأضعف جنداً..
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرى..
ألا فالعجب كل العجب !ذ لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيادي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أمهات الفراعل.. ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول..
فكيد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها.. وهل رأيك إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين..
والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة. ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.. ".
فلم يجد يزيد – الذي صعق لهول الصدمة، وارتبك، ودهش – لم يجد في جوابها إلا أن يقول ؛
يا صيحة تحمد من صوائح | | ما أهون النوح على النوائح |
ومن موقفها هنا وموقفها مع الطاغية ابن زياد.. وأيضاً حينما مشت بقدم ثابتة إلى مصرح أخيها الحسين حيث وضعت يديها تحت جثته واستقبلت السماء لتقول: الله تقبل من هذا القربان.
من كل ذلك نعرف: أن سر قول الحسين عليه السلام وهو يتوجه إلى كربلاء حينما سئل عن حملة النساء والأطفال معه وهو يعلم أنه يقتل، يقول: إن الله شاء أن يراهن سبايا.
هذه هي المرأة المسلمة: التي عاشت الإسلام عقيدة وسلوكاً وهدفاً، وتفاعلت معه.. وذاب وجودها فيه.. قوية حازمة في موقع الحزم والقوة، صابرة محتسبة في موضع الصبر والاحتساب.. وهي أيضاً تفيض رقة وحناناً، حينما يكون ثمة حاجة إلى الحنان والرقة..
هذه هي المرأة المسلمة: التي تمثل المستوى الأعلى للوعي الرسالي.. سياسياً، واجتماعياً، وأخلاقياً، وتربوياً.. إنها مثال الإنسان الكامل.. الذي يسخر بكل الرجال المنحرفين وبالطغاة والمتجبرين.. ويسحق وجودهم، وجبروتهم.. والذي يتفاعل مع الأحداث، ويشارك في صنع مستقبل الأمة بإخلاص ووعي وجدية..
ونحن الآن بأمس الحاجة إلى هذه المرأة المسلمة، التي تستهدي بهدى الإسلام، وتتأثر خطى زينب، وتقف مواقف فاطمة، وتضحي تضحيات خديجة..
ونحن في غنى عن هذه المرأة الحاقدة المعقدة التي تمثل الميوعة والسخف بأجلى مظاهرهما، ولا تعتز إلا بأنوثتها، ولا تهتم إلا بمظاهر فتنتها..
نعم.. لا نريد المرأة التي لا تعرف إلا البلاجات، والبارات والمسارح ودور الأزياء.. نحن في غنى عن هذه المرأة، ولسنا بحاجة إليها.. إنها ضرر ودمار على المجتمع والأمة.. وهي أكبر وأخطر من كل سلاح فتاك يتهدد وجود ومستقبل المجتمعات البشرية جمعاء..
إننا نريد المرأة التي تعتز بدينها وعقيدتها، وبوعيها، وبأخلاقها الرضية وسجاياها الكريمة.. وتضحي بكل ما تملك حتى بوجودها في سبيل أهدافها العليا، وقيمها النبيلة.. نريد المرأة التي تتأثر خطى زينب بنت علي عليه السلام، وتسير على منهاجها وتؤمن برسالتها..