مع ما أثبته تاريخ الإسلام، وما تقتضيه نصوصه ومقاصده، وما تشهده البشرية من تقدم وازدهار ارتقى بعقل الإنسان بعيدا عن عصور الظلام.. مع كل ذلك ما زالت هناك أصوات في العالم الإسلامي تدعو إلى منع المرأة من المشاركة في العمل السياسي والوظيفي إلا في إطار ضيق جدًا، مستشهدة على ذلك بجملة أدلة لا تثبت لدى النظر الفاحص الدقيق، منها: 1
- قوله سبحانه وتعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، فيقولون: لا يجوز للمرأة أن تدع بيتها إلا لضرورة أو حاجة. 2
- سد الذرائع: وبناء عليها يقولون إن مشاركة المرأة في العمل العام تعرضها للاختلاط بالرجال، وربما الخلوة، وهذا حرام، وما أدى للحرام فهو حرام. 3
- مشاركة المرأة سياسيًّا ربما تجعل لها ولاية على الرجل، وهذا ممنوع شرعا ومخالف للأصل الذي أثبته القرآن الكريم: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ".
والجواب عن ذلك كما عبَّر الشيخ العلامة د. يوسف القرضاوي: 1
- آية "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" لا تنهض دليلا لمنع مشاركة المرأة في العمل العام، وذلك لأسباب، منها:
أ - الآية تخاطب نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من السياق، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم لهن من الحرمة وعليهن من التغليظ ما ليس على غيرهن، ولهذا كان أجر الواحدة منهن إذا عملت صالحا مضاعفا، كما جعل عذابها إذا أساءت مضاعفا أيضا.
ب - أن أم المؤمنين عائشة مع هذه الآية خرجت من بيتها، وشهدت (معركة الجمل) استجابة لما تراه واجبا دينيا عليها، وهو القصاص من قتلة عثمان، وإن أخطأت التقدير فيما صنعت كما ورد عنها رضي الله عنها.
ج- أن المرأة قد خرجت من بيتها بالفعل، وذهبت إلى المدرسة والجامعة وعملت في مجالات الحياة المختلفة، طبيبة ومعلمة ومشرفة وإدارية وغيرها، دون نكير من أحد يعتد به.. مما يعتبره الكثيرون إجماعا على مشروعية العمل خارج البيت للمرأة، بشروطه الشرعية المعروفة من احتشام وغيره.
د- أنَّ الحاجة تقتضي من (المسلمات الملتزمات) أن يدخلن معركة العمل العام في مواجهة المتحللات والعلمانيات اللائي يتزعمن قيادة العمل النسائي، والحاجة الاجتماعية والسياسية قد تكون أهم وأكبر من الحاجة الفردية التي تجيز للمرأة الخروج إلى الحياة العامة.
سد الذرائع وفتحها سواء 2
- سد الذرائع: لا شك أنَّ سد الذرائع مطلوب، ولكن العلماء قرروا أنَّ المبالغة في سد الذرائع كالمبالغة في فتحها، وقد يترتب عليها ضياع مصالح كثيرة، أكبر بكثير من المفاسد المخوفة، وهو من المسائل التي تقدر بقدرها من غير ما شطط ولا غلو.
وقد وقف بعض العلماء يوما في وجه تعليم المرأة ودخولها المدارس والجامعات من باب سد الذرائع حتى قال بعضهم: تعلم القراءة لا الكتابة حتى لا تستخدم القلم في كتابة الرسائل الغرامية ونحوها!
ولكن غلب التيار الآخر، ووجد أن التعلم في ذاته ليس شرا، بل ربما قادها إلى خير كثير، وغالى بعض المنكرين لحق المرأة في تعلّم القراءة والكتابة، فدعا إلى حرمانها حتى من قراءة بعض السور الطوال، فقال:
علموهن الغزل والرند *** وخلوا قراءة وكتابة
وقراءة الفتاة بالحمد *** والإخلاص تغني عن يونس وبراءة
- المرأة والولاية على الرجل: إنَّ الآية الكريمة التي ذكرت قوامة الرجال على النساء إنما قررت ذلك في الحياة الزوجية، فالرجل هو ربّ الأسرة، وهو المسئول عنها، بدليل قوله تعالى: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ"، فقوله: "وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" يدلنا على أنَّ المراد القوامة على الأسرة، وهي الدرجة التي منحت للرجال في قوله تعالى: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ".
ومع قوامة الرجل على الأسرة ينبغي أن يكون للمرأة دورها، وأن يؤخذ رأيها فيما يهم الأسرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في مسألة فطام الرضيع، "فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا"، وكما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: "آمروا النساء في بناتهن"، أي استشيروهن في أمر زواجهن.
أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج نطاق الأسرة فلم يرد ما يمنعه، بل الممنوع هو الولاية العامة على الرجال.
والحديث الذي رواه البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعا: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" إنما يعني الولاية العامة على الأمة كلها، أي رئاسة الدولة، كما تدل عليه كلمة (أمرهم) فإنها تعني أمر قيادتهم ورياستهم العامة.
أما بعض الأمر فلا مانع أن يكون للمرأة ولاية فيه، مثل ولاية الفتوى أو الاجتهاد، أو التعليم أو الرواية والتحديث أو الإدارة ونحوها، فهذا مما لها ولاية فيه بالإجماع.
وقد مارسته على توالي العصور، فظهر في النساء نوابغ كأمهات المؤمنين وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية التي أخذ عنها ابن شهاب الزهري فوجدها بحرا لا ينزح، وفاطمة السمرقندية، وكريمة التي روت البخاري، وأم الخير التي روت مسلم، وغيرهن كثير.
حتى القضاء أجازه أبو حنيفة فيما تشهد فيه، أي في غير الحدود والقصاص، مع أن من فقهاء السلف من أجاز شهادتها في الحدود والقصاص، كما ذكر ابن القيم في (الطرق الحكمية).
وأجازه الطبري بصفة عامة، وأجازه ابن حزم، مع ظاهريته، وهذا يدل على عدم وجود دليل شرعي صريح يمنع من توليها القضاء، وإلا لتمسك به ابن حزم، وجمد عليه، وقاتل دونه كعادته.
وسبب وردود الحديث المذكور يؤيد تخصيصه بالولاية العامة، فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الفرس بعد وفاة إمبراطورهم، ولوا عليهم ابنته بوران بنت كسرى، فقال: "لن يفلح قوم...." الحديث.
المرأة وحق الانتخاب
واستصحابا لما تقدم من مشاركة المرأة في الحياة العامة، نفرد حديثا موجزا عن حقها في الانتخاب.. والذي يتحرر لي هو جواز اشتراك المرأة في انتخاب من يمثلون الأمة ويحملون همّ أعبائها وينظرون في شئونها؛ للآتي: 1
- إنَّ الأصل في الأعمال الإباحة ما لم يرد نص التحريم، قال ابن تيمية: "إن تصرفات العباد والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم". فاستقراء أصول الشريعة أنَّ العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، ومعلوم أنَّ انتخاب المرأة من يمثلها من العاديات التي تبقي على أصل الإباحة إذ لم يرد من نصوص الشرع ما يحظرها من حق الاختيار والانتخاب. 2
- الإسلام منح المرأة حريتها كاملة كالرجل سواء بسواء، فأقرّ اختيارها لزوجها، ولم يمنعها من التعبير عن إرادتها، واحترم جوارها، فتلك أم هانئ تجير رجلا أسيرا من المشركين، فيصل النبي صلى الله عليه وسلم خبر جوارها، ويقول: "أجرنا من أجرت، وأمنّا من أمنت يا أم هانئ" وهذا مضمون قول عائشة رضي الله عنها: "إن كانت المرأة تجير على المؤمنين فيجوز" وقد أجمع نظار الأمة ومحققوها على جواز أمانها حربا وسلما، فإذا أجاز الإسلام لها الأمان في السلم والحرب فكيف تمنع من انتخابها لنواب الأمة؟ 3
- إنَّ انتخاب المرأة لغيرها لا يخرج عن كونه إما توكيلا للغير بالدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها، وإما شهادة للغير بأنه قادر على القيام بوظيفة النائب والمدافع عن مصالح الأمة. وهما يصحان من المرأة؛ لأنها تتمتع بكامل الأهلية التي تمكنها من توكيل غيرها، كما أنَّ القرآن نصَّ على قبول شهادتها.