3- التعصب والتطرف: مشكلات الهوية والانتماء
يعتبر التعصب والتطرف من أكبر المخاطر التي تواجه الشباب العربي. فالظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وانتشار الفقر والجهل في المناطق الريفية وفي أحزمة البؤس حول المدن الكبرى؛ شكّلت مجتمعة بيئة مناسبة لانتشار السخط والاحتجاج بين الفئات الشابة المنبوذة والمهمشة والتي تعاني من الإقصاء وقلة الاستفادة من الثمار المادية للسياسات التنموية. وإذا ما أضفنا إلى ما سبق الخطابات التبشيرية التي تقدمها بعض التيارات الإسلامية المتشددة ووعودها الخلاصية لهؤلاء، إذا ما التزموا تعاليمها وتبنوا مرجعياتها، فإننا يمكن أن نفهم لماذا شكّلت هذه الفئات الرافد الأساسي لهذه الحركات وعلى مدى عقود عديدة.
ومن جانب آخر يشكّل التيار التقليدي في الثقافة العربية، بفهمه السلفي للدين وتقديسه للتراث ورموزه، وتعلّقه بالماضي بشكل تعويضي، رافداً مهماً لانتشار التطرف والتعصب والذي جاء في غالبيته كرد فعل على الممارسات والسياسات الغربية تجاه قضايا المنطقة العربية، وتحيّز غالبية هذه السياسات لصالح (إسرائيل ) على حساب حق العرب والفلسطينيين في تحرير أرضهم وتقرير مصيرهم.
أما المستجدات المتعلقة بالنتائج التي أسفرت عنها الحرب الأمريكية على العراق مع استمرار الاحتلال في فلسطين والجولان ، على المستوى الاجتماعي والنفسي ، فإنها تستحق من وجهة نظرنا وقفة تحليلية متأنية نظراً لآثارها البعيدة المدى على الأجيال الحاضرة والمستقبلية . والسؤال المركزي هنا هو : كيف ترد الشعوب المقهورة والمهزومة – والشباب منها خاصة – على الاحتلال الأجنبي والاستبداد العربي ، وإلى أي حد يساهم هذان العنصران أي الاستبداد والاحتلال في ولادة جيل عربي فاشي ومتعصب عند ملايين الأطفال والشبان الذين اختزنوا في وجدانهم وذاكرتهم مظاهر الانكسار والخيبة وانعدام الأمل ؟ .
وبالاحتكام إلى القوانين التي تحكم آليات وردود فعل الذات الجماعية المهددة على الأصعدة النفسية والثقافية والوجودية ، فإن هذه الاستجابات والردود سرعان ما تنقسم إلى نوعين متناقضين رغم ما بينهما من قواسم مشتركة، نوع يفضي إلى الوقوع في لجة اليأس والقنوط والعدمية ويؤدي في أحسن الحالات إلى البحث عن الخلاص الفردي، ونوع آخر يستشعر أصحابه فداحة الهزيمة وتدفعهم مشاعر القهر والغضب إلى الانتقام والسعي لإثبات الجدارة. يأخذ النوع الأول منحى اليأس والقنوط بل والتنكر لكل القيم والشعارات التي أودت بأصحابها إلى حالة من الإفلاس التاريخي والخواء في مواجهة استحقاقات الحاضر، بما يحمله من فداحة وخبرات وخيبات يبدو أن الذهنية التبشيرية ، ومن خلال عدم قدرتها على التقاط الفوارق والتمايزات الواضحة والفجة بين عالم المثل والنظريات وعالم الحياة الواقعي ، لم تصل إلى استخلاص ما يعتبر تحصيل حاصل على مستوى المعرفة النقدية، وهو أن الخلل الفادح في التطبيق يكشف ويعري خللاً أفدح في المنظومة النظرية ، مع هذا تتفاجأ دوماً بأن حصاد البيدر المر لا يتطابق مع حسابات الحقل المجردة ، دون أن تعيد النظر في الأسس والمرجعيات والأفكار التي عاملتها كبداهات وفرضيات صحيحة وصالحة لكل زمان ومكان !
يعزف أولئك المحبطون واليائسون عن الحياة العامة من خلال رفض المشاركة أو الاهتمام بكل ما يجري لهم وحولهم ويبحثون عن خلاصهم الفردي كل على طريقته ، ويحاولون صبغ سلوكهم ومواقفهم بمسحة تشاؤمية مستمدة من الفلسفات والأفكار العدمية لخلق بعض الانسجام والتماسك في أوصال حالتهم المفككة وإضفاء المعنى على صيغة الوجود التي أوصلتهم إليها وضعية رد الفعل والشعور باللاجدوى . وفي هذا تعبير عن حالة الانكسار العميقة والخواء المخيف الذي وصلوا إليه بعد أن تبخرت آمالهم وأحلامهم وخسروا ثقتهم بالآخرين وبالتالي بأنفسهم .
لكن الإحساس بالكارثة لا يقتصر على استجابة أولئك الذين سقطوا في لجة اليأس والهزيمة . إذ سرعان ما يوّلد عند آخرين توجهاً مغايراً سمته الأساسية الغضب والقهر ولوم الذات الفردية والمجتمعية ، لكنه وعوضاً عن البحث عن مشاجب ومبررات وهمية يعلق عليها تبعات ما جرى كما تعود الخطاب التبريري السائد برده لكل المصائب والمشكلات إلى الاستعمار والصهيونية وأعداء الأمة ،وهذا صحيح لكنه غير كاف لتفسير الحالة ، ويفتقر إلى وقفه شجاعة مع النفس، وإعادة النظر في الكثير من الأمور لعل في طليعتها طرح السؤال عن السبب الحقيقي لما وصلنا إليه ، أي غياب المشاركة والإقصاء الذي يجعل من البلاد لقمة سائغة للطامعين . وبدلاً من طرح هذه الأسئلة وغيرها يعود إلى ذاكرته الجمعية وثقافته ليستخلص منها مواقف وخبرات ورموزاً تتمحور جميعها حول لحظات مختارة من تاريخ مديد تتصل بالإنجازات الحضارية أو مواقف البطولة والتضحية أو بشخصيات وقادة عظام أو بمعارك كان النصر فيها حليفاً للامة في وجه أعدائها . وكل ذلك يهدف إلى استخلاص عناصر القوة والتفوق والجدارة ، والبناء عليها لخلق إرادة التحدي التي ترفض واقع الهزيمة القاسية وتعمل على مواجهة مفاعيلها النفسية والوجودية على الذات الجمعية المهددة .
ليس متوقعاً على أية حال ، أن يكون الخطاب المستخدم عند أصحاب هذا التوجه عقلانياً ومنطقياً ومقنعاً دوماً . إذ من الطبيعي أن يقوم ، ومن موقع رد الفعل ذاته ، بتضخيم الجوانب الإيجابية واللحظات المشرقة في التاريخ وأن يضفي على شخوصها هالة من القدسية والأسطرة بحيث تغدو نماذج مفارقة وشخصيات فوق عادية ( سوبر مان ) . لكن وظائف التعبئة والشحن النفسي وخلق تماسك عضوي بين الأتباع ، يبرر من وجهة النظر هذه ، أية ثغرات منطقية ويضعف من المحاكمة العقلانية والحس النقدي ما دامت الغاية بهذه الأهمية والسمو ، أي التخلص من الإحساس بعار الهزيمة وإعادة الاعتبار للذات الجمعية الجريحة ، وبغض النظر عن الثمن والتضحيات والمصاعب التي تحول دون بلوغ ذلك . هكذا قرأ " أدولف هتلر " حالة الغضب والقهر والإذلال التي عاشها الألمان ، وخصوصاً الشباب منهم ، إثر هزيمة ألمانيا إبان الحرب العالمية الأولى، واستشعر حاجة هؤلاء إلى الانتقام وإثبات الذات ، بعد أن فرضت عليهم شروطاً سياسية مجحفة عقب هزيمتهم عسكرياً . الأمر الذي يفسر التفاف معظم الألمان حول أفكار " الفوهرر " العنصرية المتمحورة حول تفوق العرق الآري ، والمجال الحيوي لألمانيا ، و " السوبر مان " الألماني ، والتي أفضت إلى انتخاب حزبه بأغلبية ساحقة وبانتخابات ديمقراطية ليصبح فيما بعد الزعيم الأوحد . وما تكرار المسألة ، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وفرض شروط الحلفاء المجحفة عليها بعد تدمير معظم مواردها وقتل الملايين من الشعب الألماني ، وأن بطريقة مغايرة ، سرعان ما أفضت إلى ولادة ألمانيا جديدة وقوية اقتصادياً ، ومن ثم موحدة سياسياً ، وسباقة في غير ميدان علمي وتكنولوجي وفكري ، سوى دليل إضافي على قدرة هذا الشعب على العطاء والعمل انطلاقاً من أقسى الظروف للوصول إلى قمة الهرم العالمي وعلى أكثر من صعيد.
وإذا كنا لا نعتقد بإمكانية استنساخ تجارب المجتمعات الأخرى نظراً للفوارق والخصوصيات التي تتميز بها كل تجربة على حدة وتجعل منها خبرة فريدة في سياقها وحيثياتها ، إلا أن المشترك بين خبرات الألمان واليابانيين والكوريين والعديد من دول أمريكا اللاتينية ، وبين المجتمع العربي لا يقتصر على سريان قانون التحدي والاستجابة بمعناهما الحضاري الواسع فحسب ، بل ويتجاوزه إلى الاستنتاج بان الشعوب تملك من الطاقات والقدرة على العطاء ما يكفي لتجاوز وضعيتها المأزقية ، إن أحسنت التعرف على مكامن القوة فيها واستطاعت تنظيم طاقاتها وصفوفها لتحقيق مصالحها في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء والقادرين .
اجل ، تتبلور سريعاً ملامح تشكل جيل عربي فاشي التوجه سمته الأساسية التعصب القومي والديني ، وتتوافر اليوم كل مقومات نشوئه في أوساط الشباب . ولا يحتاج المتابع لأحوال بلداننا العربية إلى قدرات تنبؤية خارقة لتوقع هذه الإمكانية . فالعجز عن مواجهة الأعداء بسبب التسلط وتعطيل طاقات البشر ونهب ثروات الدولة والمجتمع وكم الأفواه وتفريغ النفوس من احترامها لذاتها ، يصبح من باب تحصيل حاصل . سواء قدم هؤلاء الأعداء من وراء البحار ، أو استوطنوا أرض فلسطين . إضافة إلى الإحساس بعار الهزيمة وقسوة الخذلان وما يترتب عليها من شعور بالغضب والسخط ، علاوة على الفشل في معركة التنمية بما تعنيه من مشاركة أصحاب المصلحة الحقيقية في التطور وبما تنطوي عليه من سوء توزيع للثروة والسلطة ، فضلاً عن هدر الموارد والفساد وتبديد ثروات الأمة وترحيلها إلى العواصم الكبرى ، إلى جانب انتشار الفقر والحرمان والاستبداد على معظم أرجاء الأرض العربية المترامية الأطراف. هذه الأسباب أو بعضها تكفي من وجهة نظرنا ، لولادة مقدار هائل من السخط والرفض وتتكفل بتغذيته ودفعه إلى حالة الانفجار . وذلك ما لم يواجه بسياسات بعيدة النظر وبإجراءات تحد من معاناة هؤلاء الشباب وتعمل على معالجة المشكلات الحقيقية التي يواجهونا – وباختصار العمل على بناء سياسات تنموية تعطي الأولوية لتوفير فرص العمل والتعليم لهؤلاء ، وتعيد إليهم الأمل والثقة بأن الغد سيكون أفضل من الحاضر عبر مشاركتهم ومساهمتهم وتوظيف الطاقات الهائلة التي يملكونها.
على ذلك فإن مواجهة التطرف في المنطقة يتطلب تضافر جملة من السياسات الداخلية الهادفة إلى معالجة المشكلات الأساسية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لأكثر الفئات الاجتماعية عوزاً وتهميشاً من طرف، وإلى علاقات دولية أكثر عدالة وإنصافاً في التعاطي مع مشكلات المنطقة تعيد لأهلها ثقتهم بنفسهم واحترامهم لانتمائهم الثقافي والحضاري بدلاً من إعطاء الفرصة لأولئك المتعصبين سواء في الغرب أو الشرق لتأجيج صيغ الصراع الثقافي والحضاري بين الشرق والغرب على أسس دينية تارة وحضارية تارة أخرى.
أما على صعيد الهوية والانتماء فإننا نشهد اليوم خطري التغريب "Westernization" والذوبان في الآخر أو التقوقع باسم خصوصية ثقافية مغلقة ومكتفية بذاتها. فمحاولات البعض تبني القيم ونماذج السلوك والعيش على الطريقة الغربية التي تدفع باتجاه المادية والفردية والربح والاستهلاك والكسب السريع بدعوى الانتماء العضوي إلى حضارة العصر، لا تقل خطورة عن دعوات الخصوصية المغلقة بما تعنيه من نزعة ماضوية ونظام عقيدي يسبغ على أتباعه طابعاً مثالياً مقدّساً غير قابل للنقد والتساؤل.
وكي تكون الخصوصية الثقافية المفتوحة والنقدية بديلاً لكلا الخطرين (التغريب، التقوقع)، فلا بد أن نجمع في نفس الوقت بين ضرورة التمسك بكل ما هو عقلاني ومضيء في إرثنا الحضاري، وبين الانفتاح على ثقافة العصر وإنجازاته.
4- صراع الأجيال:
تشعر أعداد متزايدة من الشباب بوجود فاصل زمني ومساحة من التفكير المختلف بينها وبين الجيل أو الأجيال التي تسبقها. وتؤدي الاختلافات في طرق التفكير والسلوك إلى احتفاظ كل طرف بنظرة مسبقة عن الطرف الآخر غالباً ما تكون نمطية وتحتوي على العديد من الأحكام الجاهزة والبداهات غير القابلة للنقاش والتغيير. فبينما ينظر الشباب إلى الأجيال الأكبر من أهل ومربين ومسؤولين ومثقفين على أنهم أكثر محافظة وجموداً وتمسكاً بالأعراف والضوابط الاجتماعية، ويأخذون عليهم تسلطهم في التعامل مع الأجيال الجديدة عبر التعليمات التي تتصف بغلبة الأوامر والنواهي، وانعدام قيم التفاهم والحوار وممارسة الوصاية على الشباب والتدخل في اختياراتهم الشخصية على مستوى المهنة أو الزواج أو التعليم، وربما حتى في اللباس والمظهر…الخ، لا يرى الكبار في الشباب إلا الحماس والاندفاع وقلة الخبرة ويتهمونهم بعدم تحمل المسؤولية واللامبالاة والطيش. وعوضاً عن سعي الطرفين إلى تجاوز الأحكام والنظرة المسبقة عبر آليات النقاش والتفاهم الهادفة إلى تقريب وجهات النظر، والاتفاق على خطوط وأطر عامة مع الحرص على ترك المسائل الخلافية للاختيارات الحرة لكلا الطرفين، والاحتكام إلى الوقائع قبل إصدار أحكام نهائية، يتمسك كل طرف باعتباراته وآرائه ويتعمق الشعور بالاغتراب عند الشباب خصوصاً مع ازدياد عوامل التهميش الأخرى الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتطغى سلوكيات ردود الفعل ومحاولات إثبات الذات وانتزاع الاعتراف، على السلوكيات المبنية على القناعة وتحمل مسؤوليات الاختيار وتصحيح الأخطاء وذلك بسبب ضعف الحس النقدي وانقطاع قنوات الحوار.
ولا يقتصر تهميش الشباب على مجرد إحساسهم بأنهم مهملون ومتروكين لشأنهم، إذ أن المؤشرات التي تدلل على انخفاض فرصهم بالمقارنة مع فرص الجيل الأكبر، واضحة من خلال تفحص ما نسميه العلوم الاجتماعية بفرض الحراك الجيلي "Generation Mobility" على الصعد السياسية والمهنية.(12) فمن الناحية المهنية يلاحظ وجود قيم تربط الحراك الإداري والمهني بمعايير تتصل بالأقدمية والعلاقات الشخصية، أكثر من ارتباطها بالكفاءة والإنجاز الفردي، لهذا من النادر أن نجد الفئات الشباب في مواقع القرار رغم أن تحصيلهم العلمي قد يكون أعلى من تحصيل رؤسائهم في العمل. وهذا ما يخلق الشعور بالغبن ويحرم المجتمع من طاقات جديدة وقادرة على العطاء. وهذا ما ينطبق على الصعيد السياسي أيضاً سواء داخل الأحزاب والمشاركة على الصعيد الحكومي أو داخل هيئات المجتمع المدني كالنقابات والجمعيات والتي تشترك في غالبيتها في حصر إدارتها وقياداتها بكبار السن لدرجة أن بعضهم لم يبارح كرسيه منذ جلوسه عليه قبل عشرات السنين!.
والسؤال الذي يصعب تأجيله في هذا المجال: أيهما أفضل للطرفين وللمجتمع ككل، ترك مظاهر الصراع ونتائجه السلبية دون حلول، أم التفكير في طرق وأساليب للتخفيف من حدة الصراع بين الأجيال من خلال الاعتراف بالمواقف والآراء الإيجابية عند كلا الطرفين وتنشيط آليات الحوار على قاعدة الاعتراف المتبادل بحق الاختلاف للوصول إلى حلول مشتركة في المسائل الخلافية؟.