لم يكن اختيار مدينة "فاس" عاصمة للثقافة
الإسلامية، عشوائيًا؛ فهي مدينة تعيش تحركًا ثقافيًا متميزًا على مدار السنة يتجسد في مهرجانات واحتفالات دينية وأنشطة مختلفة ومتنوعة تتلون بشتى ألوان الإبداع.
ليكون وصفها بـ"مدينة المهرجانات" أو "المدينة الروحية" امتيازًا تستحقه عن جدارة، ولا يمكن نكرانه أو تجاوزه، فعبقها الديني والروحي يفوح من عمق أزقة ودروب وأحياء المدينة العتيقة المتجددة دوما.
ويلحظ المتابع أن هناك أكثر من 15 مهرجانا ثقافيا وفنيا تنظم بشكل سنوي فيها وذلك باهتمامات متباينة تتأرجح بين الموسيقى والمسرح والسينما، وملتقيات ثقافية وإبداعية متنوعة، ومواسم واحتفالات كثيرة؛ هي بعض من فقرات أجندة المدينة التي تعيش انتعاشا ثقافيا منقطع النظير، مما يجعلها كتابا رائعا يمكن قراءته بكل اللغات ومن كل الأجناس البشرية، من خلال أنشطتها الثقافية المختصرة وما تزخر به من تنوع ثقافي وحضاري.
[size=21]موسيقى الروح
دأبت هذه المدينة القديمة التي جعل منها بانيها "المولى إدريس الأول" دار علم وفقه ودين في المغرب، على الاحتفال بمهرجانات أضحت تقليدًا سنويًا بتواريخ معروفة ومضبوطة لتكريس تاريخ تليد، وحضارة ستستمر أبد الآبدين. ولا يهمل أهالي فاس الشخصيات الدينية الخالدة في تاريخ المدينة والأمة، فيقيمون لهم احتفالات موسمية عربون اعتراف بجميلهم.
ورغم طغيان الموسيقى الأصيلة والروحية والعصرية، على اهتمام نسبة مهمة من مهرجانات فاس، إلا أن مسئولي المدينة والمشرفين على فعالياتها الثقافية لم يهملوا بقية اهتمامات سكانها، فنطموا ملتقيات للطبخ والموضة وفن الحلقة. كل ذلك للوقوف وقفة تأمل وتمحيص في تاريخها العريق الذي تؤثثه معالمها وأبوابها وأسوارها ودروبها.
ويعتبر (مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة) أهم مهرجان بالمدينة، ومن أفضل مهرجانات الموسيقى الروحية في العالم. ومنذ ميلاد هذا المهرجان في1994، وهو يُقام بانتظام في يونيو من كل عام، حيث يحتشد أشهر المغنين وفرق الموسيقى الروحية والدينية من مختلف بقاع العالم، لإحياء سهرات بباب "الماكينة"، و"بوجلود"، و"ليلي"، و"دار التازي"، وهي المواقع المحتضنة لفقرات المهرجان.
ويربط بعض المهتمين بين شهرةَ فاس دوليًا، وهذا المهرجان الذي تشرف على تنظيمه مؤسسة "روح فاس" منذ نحو سنة، فقد جعل منها المهرجان مدينة الصداقة والتعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، كما استطاع استقطاب مفكرين من ديانات ومشارب مختلفة للنقاش في مواضيع ندوات "لقاءات فاس"، التي ولدت من رحم المهرجان، وسعت إلى تكريس الحوار بين الأديان.
ورغم ما يمكن أن يقال عن ضخامة ميزانية هذا المهرجان التي تقدر بملايين الدولارات والتي يمكن أن يُستثمر بعضها في إعادة الروح لأحياء هامشية بالمدينة، فإن ذلك لا يمنع -حتى غير المتحمسين له- من الاعتراف بأهميته في تحقيق الإشعاع المطلوب للمدينة. وهو الذي تفتح فقراته الساهرة أبوابها لكل الفئات الاجتماعية، خاصة السهرات التي تحتضنها ساحة "أبي الجنود".
تكريس للروحانيات
تستقطب "فاس" بمناسبة احتضانها لهذا المهرجان، أقطاب الزوايا الدينية لإحياء سهرات بـ"دار التازي" مقر جمعية "فاس سايس" التي كان لها فضل كبير في ميلاده قبل 13 سنة، تجسد مظاهر التصوف باعتباره البعد الداخلي للإسلام وطريقا لسير القلب وحياة الروح والأخلاق الحسنة، والذي بواسطته يتمكن الإنسان من إدراك تمظهرات الحضور الإلهي في ثنايا العالم والحياة.
ويزيد مهرجانا الموسيقى الأندلسية والملحون المنظمين في يناير وأبريل من كل عام، في تكريس الاهتمام بالموسيقى الأصيلة والروحية. ويطمح منظموهما الراغبين في التعريف بالفنين وتحبيبهما إلى الجيل الناشئ، صبغهما بطابع الدولية من خلال فسح مجال المشاركة فيهما أمام فرق من أقطار أخرى.
وهو الطموح الذي تحقق في المهرجان الوطني لفن المديح والسماع الذي ينظمه مجلس المدينة منذ يناير 1995. واستدعى للمشاركة في حفل افتتاحه في 20 شتنبر 2006، فرقة "دائرة فتح الغفار" من السنغال. بل انفرد بإبراز هذا الفن بالسنغال وإدراج أمداح أديت باللغة الأمازيغية من قبل فرقة أنوار من مدينة أكادير.
ويضع منظمو المهرجان نصب أعينهم تحقيق هدف جعل المديح النبوي والسماع، مظهرا من مظاهر تثبيت الهوية المغربية والثقافة الإسلامية العريقة بين الناشئة. ويطمحون إلى طبع محتوى مداخلات الندوات المنظمة خلال الملتقيين الماضيين لتوثيقها ووضعها رهن إشارة الباحثين والمهتمين في إطار تشجيع البحث العلمي المهتم بهذا الفن الأصيل.
ويعتبر هذا المهرجان مناسبة لاكتشاف أشكال مختلفة من هذا الفن، وتنظيم مباريات للحفاظ عليه، وتمتين جذوره، وترسيخ الوعي بأهميته باعتباره واسطة تربط بين الماضي والحاضر ووسيلة للإشراف على المستقبل ومراعاة لمساهمته في تثبيت الهوية المغربية والثقافة الإسلامية المبنية على أسس التسامح والتربية الخلقية.
إضافة صوفية
يشكل مهرجان فاس للثقافة الصوفية المنتظر تنظيمه بين 27 أبريل و2 ماي 2007، إضافة نوعية وكمية لتاريخ وأجندة المهرجانات بفاس. وهو المهرجان الذي تنظمه جمعية "الكرامة" المشكلة من أسماء وازنة كانت وراء ميلاد واستمرارية مهرجان الموسيقى الروحية، تحت شعار "التصوف والتنمية البشرية".
تحتل الموسيقى الأندلسية الصدارة في الاهتمام الشعبي
ويبدو أن هذا المهرجان لن يحيد بدوره عن السعي إلى الاهتمام بالجانب الروحي من خلال إحياء سهرات يومية للسماع مع الطرق الصوفية المغربية وخاصة منها "التيجانية" و"القادرية" و"البوتشيشية" و"الشرقاوية" و"الوزانية"، وتنظيم ورشات يومية حول موضوع "التصوف، فن وشعر".
وسيكون الفنان المغربي "محمد باجدوب" وزميله السوري "حسن الحفار"، ضيفا حفل الافتتاح بإحيائهما سهرة فنية في موضوع "سماع من الشرق ومن الغرب"، فيما تستمد ندوات المهرجان التي يشارك فيها باحثون في مجال التصوف، مواضيعها ومحاورها من"التصوف والتنمية البشرية" و"التصوف وتنوع الثقافات" و"التصوف وحقوق الإنسان" و"التصوف وتاريخ المغرب".
ويؤكد فوزي الصقلي المستقيل أن إدارة مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة لأسباب ربطها بتقلص "وزنه" داخل مؤسسة "روح فاس" الراعية له، أن مهرجان فاس للثقافة الصوفية "فرصة لجلب الزوار والمهتمين بالطرق الصوفية والزوايا، من مختلف بلدان العالم وتشجيع السياحة الدينية، ولم يأتي كرد فعل أو بديل عن مهرجان فاس للموسيقى الروحية".
ويطمح منظمو المهرجان إلى تحويل فاس إلى نقطة استقطاب وقبلة للزوار من مختلف الجنسيات ممن لهم اهتمام بالصوفية والتصوف والطرق الصوفية.
كما يرون أن أهدافه لا تقتصر على تسليط الضوء على الإنتاج الصوفي بالمغرب ومختلف الدول العربية والإسلامية، بل يروم الاهتمام بمختلف الأضرحة والمقابر بالمدينة التي طالها التهميش وتحول بعضها إلى ما يشبه مزابل مفتوحة.
في كل درب أو زقاق، يجد زائر فاس العتيقة مسجدا لإقامة الصلاة أو ضريح يرقد بين جدرانه رجل صوفي أو عالم من علماء الدين. وتقديرا لفضلهم يقيم أهاليها احتفالات خاصة بأهم رجالات الدين يسمونها "مواسم" يمارسون فيها طقوسا يمتزج فيها الديني بعادات وتقاليد المدينة.
وتعتبر خياطة كسوة ضريح المولى إدريس القريب من حي النجارين، والطواف بها عبر أهم شوارع وأزقة المدينة العتيقة، أهم مظاهر الاحتفال بمهرجان باني ومؤسس المدينة الذي يشكل متنفسا روحيا ودينيا. وفيه يمتزج الديني بالفني والثقافي حيث يسير الموكب إلى الضريح، على إيقاع زغاريد النساء والطبول والمزمار والموسيقى الشعبية لفرق عيساوة واحمادشة وجيلالة وكناوة.
وتشكل عروض الفروسية و"التبوريدة" والسهرات الدينية المفعمة بالأمداح النبوية وتلك التي تشارك فيها أجواق الملحون والفرق الفلكلورية الشعبية والصوفية، أهم الفقرات الاحتفالية بموسم المولى إدريس الذي تخصص له الجماعة أكثر من 100مليون سنتيم لتمويله على عكس موسمي سيدي أحمد التيجاني وسيدي علي بوغالب الذين لا يحظيان بالاهتمام نفسه.
ويحظى الاحتفال بالموسم الديني لـ"سيدي أحمد التيجاني" دفين حي البليدة، باهتمام أتباع الطريقة "التيجانية" بالعديد من الدول الإفريقية الذين يحجون إليه سنويا ويقيمون احتفالات خاصة اعترافا بما قام به "من جليل الأعمال في الأدغال الإفريقية من أجل إعادة نشر الإسلام بها.
ويشكل موسم سيدي علي بوغالب دفين حي باب الفتوح، أحد أهم مهرجانات فاس. ويشتهر بحفل الختان التقليدي الجماعي المنظم بالمناسبة لأبناء الفقراء والمعوزين الذي يشرف عليه حلاقو المدينة. ومن مفاجآته ختان أجانب أو شبان فاتهم الخضوع إلى العملية في مراحل عمرهم الأولى.
]طبخ وموضة
لم تهتم مهرجانات فاس فقط بما سلف ذكره، بل أولت أهمية لعدة أصناف موسيقية حديثة وعصرية، تكبر رغبة شباب المدينة في اكتشافها. وفي الوقت الذي أطلق فيه المهرجان الوطني للرقص التعبيري طلقته الأولى في 2 ديسمبر 2006، يسعى مهرجان "الجاز في الرياض" المنظم في نوفمبر إلى ضمان اكتشاف شباب المدينة لهذا الفن.
وسيطفأ مهرجان فاس للمسرح الجامعي الذي تنظمه كلية الحقوق، بين 27 و30 أبريل 2007 شمعته الثانية التي اختير لها "مهرجان القراءة المسرحية" محورا، شأنه في ذلك شأن مهرجان فن الحلقة الذي تحتضنه ساحة أبي الجنود في الشهر نفسه. فيما يدخل مهرجان الفيلم المتوسطي بعد شهرين، ربيعه الثاني عشر.
الثقافة الأمازيغية بدورها حظيت بالاهتمام في فاس، فخصص لها مهرجان تنظمه جمعية "فاس سايس" في الأسبوع الأول من يوليوز بهدف المساهمة في الجهود للتعريف بالموروث الثقافي الأمازيغي والإسهام في تفعيله. ويتنوع برنامجه بين الندوات والسهرات الفنية الأمازيغية وعروض الفروسية والصناعة التقليدية والأزياء.
وتحتضن فاس أيضا مهرجانا للموضة والجمال ولد في يونيو 2006 تحت شعار "فاس بعيون شرقية". وتسعى مجلة "الفاسية" من وراء تنظيمه، ضمان امتداده الطويل كي تظل فاس المدينة العلمية الجميلة يسطع نورها وسط مهرجانات المدن المغربية الغالية ويرد لها رونقها وبهاءها.
ويتعدى اهتمام مهرجانات فاس ما سلف ذكره من مواضيع، بل أولت اهتماما بالصم والبكم الذين ينظم في شهر يناير مهرجان خاص بإبداعاتهم في المسرح والرسم والموسيقى والرياضة، فيما يبقى الملتقى الشعري وملتقى ابن رشد وربيع فاس، من أهم اللقاءات الثقافية الإبداعية بالمدينة.
ويشكل مهرجان فاس لفن الطبخ المنظم في أبريل، فرصة لاكتشاف كنوز الطبخ في بعض الدول الأجنبية من خلال مختلف الندوات المنظمة بالمناسبة وإبراز ما تزخر به المطابخ التقليدية المغربية واليهودية والفاسية من أطباق ووجبات تميزها عن نظيراتها في العديد من الدول