ذاكرة فاس العتيقة بعيون فنانينها التشكيليين

عدد الرسائل : 428 تاريخ التسجيل : 26/01/2008

ذاكرة فاس العتيقة بعيون فنانينها التشكيليين

يحتضن رواق الفن الاستشراقي بفاس منذ الجمعة 16 مارس 2007 إلى غاية 7 أبريل 2007 معرضا تشكيليا جماعيا. يشارك فيه كل من الفنانين التشكيليين: عبد المالك العلوي وحسن العلوي وعبد العالي بلال ومحمد كريش، وهم فنانون من مواليد مدينة فاس.

يشكل هذا المعرض الجماعي قيمة فنية وجمالية لذاكرة فاس التراثية، بما لها من أبعاد أنطولوجية واجتماعية فضلا عن الأبعاد الفلسفية والعلمية والفنية والحضارية. كما يشكل لحظة تاريخية تلملم مسارات الفنانين الزمنية والفنية والمكانية، لتعيدهم إلى ذاكرتهم الجمعية التاريخية، التي تحتفظ بذكريات تشكيلية وفنية عرفتها المدينة العتيقة في فترات السبعينيات والثمانينيات؛ يومها ازدهرت الحركة التشكيلية والفنية بصفة عامة في مدينة فاس، فكانت تضاهي مدينتي الرباط والبيضاء في الحركة الثقافية والفنية. وكانت محج الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء والمثقفين من ربوع المغرب وخارجه بل استقطبت رجالات الفكر للاستقرار فيها.
وخلال هذه الفترة الفاسية الذهبية شكل هؤلاء الفنانين التشكيليين بجانب بعض المبدعين الآخرين حقلا ثقافيا وإبداعيا رائدا في المدينة، استقطب اهتمام النقاد والدارسين والمختصين في الفن التشكيلي، مما جعلهم مدرسة فنية متميزة بتيماتها المتجذرة في تربة المدينة العتيقة. وجذبت هذه الحركة إلى المدينة نشاطا علميا متنوعا بين المعارض التشكيلية الجماعية والفردية وبين المهرجانات المسرحية والندوات الثقافية والفكرية والموائد الدراسية والأوراش العملية بل استضافت نخبة من المثقفين والتشكيليين والنقاد والمبدعين ذوي الشهرة والخبرة والتجربة الأكاديمية والميدانية لاستنارة طريق التشكيل في مدينة فاس العتيقة، وإنجاز البحوث حول الأعمال الفنية الرائدة.
ومعرض يومنا هذا؛ يعيد بناء حبات ذلك العقد المنفرط من تاريخ المدينة. فيفصح في أعماله عن وحدة موضوعه بتمايزات فردية انفرادية في الأسلوب والتقنية والتشكيل، كما يفصح عن نفسه فضاء لتلاقح وتبادل محصلات وتجارب وخبرات هؤلاء الفنانين الأربعة، وامتزاجها لصناعة صورة تاريخية لمدينة فاس العتيقة مرتفعة عن واقع معيش إلى واقع فني مفترض جميل، يعبر عن ثقافة فنية وصناعة تشكيلية تبلورت من خلال حياة الفنانين التشكيلية وممارساتهم التطبيقية، التي تمرسوا عليها في صناعة اللوحة وسباكة الصورة البصرية التشكيلية الناطقة بلغة اللون والفرشاة عن تيمتها.
وعين المشاهد تجول بفضاء المعرض، تكتشف هذه الوحدة وهذا التنوع في ذات اللحظة عبر تموجات اللوحات الفنية المعروضة، فتحيل سؤال الوحدة والتنوع في نفس الوقت إلى الناقد التشكيلي، لعلها تجد جوابا لديه عن إمكانية الوجود المتنوع في ذات الموضوع الموحد! فيأتي الجواب من ميزات ومميزات كل فنان تشكيلي منهم على حدة؛ حيث ينفرد كل منهم بتقنية خاصة، تتجلى في اختياراته للتيمة المنبثقة من ذات الموضوع الموحد لأعمالهم المنبعث من مدينة فاس العتيقة. وضبطه للمقامات اللونية، وخصوصيته في تركيب بنياتها الجمالية إضافة إلى طريقته وأسلوبه في معالجة التفصيلات والتمفصلات التيمية التشكيلية التي يشتغل عليها بريشته وألوانه ومواده الخام. هذا فضلا عن تمايز كل منهم برؤيته الخاصة للحياة والإنسان والأشياء والكون والأحداث، وقراءاته الفلسفية والاجتماعية والعلمية لدلالاتها عنده، بما يميزه عن زميله في الإبداع. ومن أجل استكمال تجليات خصوصيات كل فنان منهم الإبداعية، ومميزاته القرائية والتعبيرية للأشياء في سيرورة تفاعلها الزمني والمكاني والحَدَثِي. نقارب المعالم الكبرى لأعمالهم الفنية المعروضة في هذا الرواق الفاسي، الذي يعد قيمة معمارية وفنية لمدينة فاس، وفضاء فنيا يتحدث فيه الفن التشكيلي عن نفسه بكل حرية وإبداعية وجمالية.
أ ـ معالم الإبداع عند الفنان عبد المالك العلوي:
يستمد هذا الفنان وجوده التشكيلي من خلال جذوره التاريخية في هذا الحقل الفني. فمنذ أواخر الستينيات، وهو يعرض لوحاته التشكيلية إلى يومنا هذا. مما مكنه من كفاءة عالية في التعبير عبر اللوحة، عن منطوق تفكيره الصامت، الرائج في قراءته للحياة بعين المشاهدة والملاحظة، وبمنهج الاستدراج والتحليل والتركيب ثم البناء التشكيلي لعوالمه الفنية. حيث يستلهم الرمز والعلامة المتلاشية في بنيات لونية واهية، بالمفهوم السيميائي الدلالي عن مكنون الدال والمدلول في ترابطهما بعلاقة السياق الحدثي الواقعي في المشهد الفني الشعبي التقليدي، ضمن الفضاء المعماري للمدينة العتيقة بهندستها المتميزة في الأبعاد والأحجام والعمق، وبخاماتها وأشكالها وزخارفها وفسيفسائها، المبثوثة في الخشب والجبص والطين المحموم والزليج وغيرهما من مشاهد الواقع المعماري الفاسي. وبما فيها من " العربيسكLes Arabesques " فضلا عن مشاهد هذه العلامات والرموز والزخارف والهندسيات بإيقاعاتها المختلفة في مواقع الزربية المغربية التقليدية الأصيلة واللحاف واللباس التقليدي وغيرها من مشاهد العين الإبداعية.
تنتقل عند الفنان عبد المالك العلوي العلامة والرمز بحمولتهما الدلالية والفنية، من شكلهما الأصيل في مواقعهما الواقعية إلى أشكال وعلامات ورموز طيفية في مواقعهما الفسيفسائية؛ ضمن لونيات أساسية وثنائية متوهجة، متناغمة ومتناسقة تارة، وتارة أخرى متباعدة متمفصلة، توحي في أعماقها بألوان المدرسة الوحشية في الفن التشكيلي، وكأنه يعيد عين المشاهد إلى أصل نظرتها البدائية للأشياء، وتعرفها الأول على الألوان دون أن تتدخل فيها يد الفنان لتجد الرابط اللوني بينها. ومن هنا تخرج قيمة الجمال في لوحاته. بل تخرج الدقة في تجسيد الواقع الطبيعي المحتضن للتناسق والتنافر في نفس اللحظة الوجودية عبر اللوحة التشكيلية.
فلوحات هذا الفنان التشكيلي الفاسي بما هي عليه من زخر وزخم وتنوع لوني زاه فاتن عبارة عن مقامات شعرية بصرية، تصلنا بعالم طفولي؛ ينقل فيه الطفل مشاهداته الأولى لألوان الطيف وتمعنها بمنطوق اللون المعبر عن الطبيعة والإنسان وحدثية الحياة، ليخلق منها لوحاته الفنية المعبرة عن الذات والآخر ومساراتهما المتعددة في المعيش الاجتماعي الرمزي، الدلالي بألوانه الزاهية. المتلاشية في الذاكرة ... فزركشية ألوان الزربية في مشاهدها المغربية تحيل الحبو الطفولي في القراءة الفنية لحيثيات العلامة والرمز إلى قراءة واعية للتيمة الفنية المشكلة للغة التشكيلية لدى هذا الفنان، بما ينقل العلامة والرمز والشكل إلى التجريد، في إطار عقلنة الأداء الفني بمتحكمات العلم التشكيلي. ويبقى الفنان عبد المالك العلوي ذاكرة فنية تحتضن البعد الإبستيمي والوظيفي للون عبر أنطولوجية العلامة والرمز والشكل المغربي الأصيل الموجود في الحضارة المغربية العتيقة بكل تمظهراتها الهندسية والحرفية والجمالية. ينبع منها الإلهام الفني المغذي للإبداع التشكيلي.
ب ـ معالم الإبداع عند الفنان حسن العلوي:
تتجذر خبرة وتجربة الفنان التشكيلي حسن العلوي في تربة أواخر الستينيات من القرن الماضي، مما أكسبه فقها تشكيليا قارئا للذاكرة التاريخية لمدينة فاس العتيقة، حيث تعبر لوحاته عن تاريخ موغل في سجل فاس الحضاري بكل معطياته المعمارية والاجتماعية والتاريخية. فهي تغوص بالمشاهد في الذاكرة الجماعية لهذه المعلمة المتميزة ببعدها العلمي والفكري والثقافي والحضاري، بما تعني استرجاع الماضي، الحاضر في الفضاء المكاني، والحاضر في وعي الفنان ركيزة أساسية في استنطاق اللون والأداء التشكيلي، للتعبير عن ماهية مازالت قائمة في المعمار والكتب، والمشاهد اليومية لحركية المجتمع الفاسي في دروب وأزقة وأسواق مدينة فاس العتيقة رغم انفلات التزامني الحدثي وبقاء التعاقب الحدثي اليومي متجسدا في ملامح العمارة التقليدية المتمظهرة بالدرج والدروب والأزقة الضيقة والأبواب والأسوار، وما حوت من زليج وألوان وجبص وخشب؛ لتمتد إليها رؤية هذا الفنان بقراءة تشكيلية وفنية متميزة، تفرغ منها الحدث اليومي لتبقي بدقة حادة وتقنية تشكيلية عالية ومتمكنة من اللون والريشة وضربات تقاسيمها على جسد اللوحة فضاءات مكانية ودروب وأزقة تقليدية فارغة من شخوصها وأحداثها، وعوالم مهجورة من ناسها، مسكونة بالخيال كما مسكونة بقراءة المشاهد والناقد. لكن تستوطنها الأدراج والأحزمة الزليجية بكل تلاوينها، تعلوها العتمة وشبحية الأشكال، لتؤثث في ذاكرة المشاهد طريق من مروا من هناك في زمن مضى، وترك طيفه موجودا في الذاكرة الثقافية والاجتماعية والتاريخية للإنسان الفاسي.
من هذه الذاكرة القابعة في نفسية الفنان، ومن زمنها البعيد، نستشعر الذات والهوية في لوحاته الفنية ضمن سيرورة الوجود الحدثي والتشكيلي للمادة الخام، التي تتشكل لغة تواصل بين اللوحة والمشاهد، وتغدو عند الناقد موضوعا للاشتغال، وحقلا معرفيا للدراسة والتحليل. فكل مشهد من مشاهدها يدعو المشاهد إلى التأمل الحضاري والروحي، والسفر الفردي في أبعادها الحسية للتنقيب عن جدوى الذات والهوية، وعن أزلية الأشياء وحركيتها المخفية وراء سكون الفضاء التشكيلي، الذي يشكل تيمة الفنان حسن العلوي بكل حيثيات الألوان ودلالاتها في اللوحة الفنية. حيث تبقى تيماته ثابتة ومنذ مدة طويلة لا تكاد تنفك عن ذاتيته وهويته؛ لكنها تبقى في تجلياتها متنوعة في الشكل والمقاربة التقنية والفنية، وتبقى غنية في تعابيرها التشكيلية، وكأن المشاهد يعيش زمنا ماضيا في زمن حاضر، بمعنى إسقاط التعاقبية من الحدث الزمني والإبقاء على التزامني منه. فيحيله فناننا بهذه الخصوصية على الاهتمام الدائم والمستمر بل والمتجدد بالمدينة العتيقة وارتباطاتها بالتراث الإسلامي الأصيل، الحاضر بكل قوة في المظاهر العمرانية والجمالية للمدينة. واستجلاء رمزيته ودلالاته وأبعاده الثقافية والفنية والإبداعية، في إطار بلورة ثقافة تشكيلية بصرية، ترتكز وتقوم على قراءة الفنان لفضاء المدينة القديمة بمكوناتها المتنوعة الثرة.
فملامح تيمات لوحات هذا الفنان الفنية المعروضة تعبر عن نفسها من خلال المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي؛ مع إضفاء الطابع الخاص لرؤيته الفنية عليها، ولكيفية مقاربتها باللون ودرجاته المختلفة وبتشكيل الفضاء بأبعاده الثلاثة لغاية خلق مشاهد من الواقع معبرة عن الذات الأصيلة والنفس المسافرة في تاريخ المدينة العتيقة. دون الإحساس بالغربة في أدائه التشكيلي، المبني على دراية بالتشكيل.
ج ـ معالم الإبداع عند الفنان عبد العالي بلال:
الإرهاصات التشكيلية الأولى عند هذا الفنان، بدأت تتبلور وتستقل بذاتيتها وخصوصياتها في بدايات العقد السابع من القرن الماضي، بما أحالها على ضبط وإتقان التعبير التشكيلي، لبناء تصورات الفنان وتمثلاته لتيماته الفنية، التي لا تختلف عن منبع صدورها الإبداعي، وهي مدينة فاس، وكأني به يتقاسم عوالم طفولته مع الفنان محمد كريش؛ حيث يستعيد فيها ذكريات ومشاهد من طفولته الغائرة في دور المدينة القديمة وأزقتها ودروبها وساحاتها، بل وفي معيشها اليومي الذي ترعرع في خضم أحداثه وناسه. وتشبع بأجوائه وجماليته إزاء تشبعه بطقوسه المتميزة في المدينة العتيقة، حيث توجد الأزقة والأبواب والحوانيت والأسواق الداخلية بفناءاتها الواسعة، بجانب وجود الجدران المهشمة على أعتاب الزمن وتصاريف التاريخ وفعل الإنسان بموروثه المعماري، والسطوح المتلازقة تلازق الدور والمنازل. يستمد منها تيمات لوحاته، بتقنية الفنان المتمكن من أدائه التشكيلي، بما يتميز هذا الأداء بانفعالية حركة الريشة والفرشاة على سطح اللوحة، ليسجل عفوية الاندفاع والانطباع والتجسيد الفني لحيوية المشهد التشكيلي وثائريته المنسابة في التعبير عن الأبواب والأزقة والدور وسطوحها والساكنة.
تبرز معالم هذا الفنان التشكيلية من خصوصيات تعامله مع المادة الخام والتيمة في مستوى تباين لطخات الصباغة وحماسيتها على الأرضية القماشية، وتجليات نتوءاتها الصباغية، ومقاماتها اللونية المتقاربة، التي تنحو في بعض ملامحها منحى تدرج اللون الواحد، للتعبير عن تفاصيل التيمة بدقة متناهية حد التماهي بالواقع المشاهد. ومن ثمة تتحرر حينها من عنصر اللون؛ لتمكن الفنان من صياغة مرئيات تشكيلية توهم المشاهد بالحقيقة، لكن عمقها يرتفع عن الحقيقة إلى الخيال، فتصبح معه اللوحة التشكيلية حينئذ نافذة تطل على زمن الذاكرة انطلاقا من المُشاهد الحاضر في الآن.
إن الواقع منطلق تجربة هذا الفنان، في هذا المعرض الجماعي، وهو عودة لها دلالتها الأنثروبولوجية والحفرية في ماضي المدينة العتيقة، التي تشكل الخيط الرابط بين لآلئ رواد معرضنا هذا. ينقب الفنان عبد العالي بلال في ثناياها عن حفريات حضارية، ليشكل منها تيماته بأسلوب تشكيلي رزين ومتدفق في تقنيات عالية الأداء والسبك والتنسيق، بل في بناء اللغة التشكيلية، التي تصل المشاهد والزائر بل القارئ للوحاته بتصورات الفنان وبرؤيته الخاصة لتجليات عينه التشكيلة. وبذلك يعد هذا الفنان في معروضاته تلك رائدا من رواد المدرسة الواقعية من منظوره الخاص بل يشكل تيارا من تيارات الواقعية في الفن التشكيلي الفاسي.
د ـ معالم الإبداع عند الفنان محمد كريش:
جذور هذا الفنان التشكيلية تضرب بعمقها في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، لتشكل المعالم الكبرى لأدائه التشكيلي، وقراءاته الفنية لتيماته، بل لتصقل مواهبه المختلفة بمرجعية علمية أكاديمية عالية، وبمنهجية متخصصة في الفن التشكيلي فضلا عن مهارات وقدرات تقنية متميزة، وخبرات وتجارب ميدانية تمتاح من حضورها اليومي في الحقل التشكيلي مسوغات خصوصياتها وتميزاتها الفنية والأدائية. لتجعل صناعة اللوحة التشكيلية تأخذ أكثر من منحى، وأكثر من قراءة ودلالة.
فعملية الإبداع عند الفنان محمد كريش لا تقتصر فحسب على ما هو صوري بصري دلالي، بمعنى صياغة تشكيلية للصورة الواقعية، بل تذهب أبعد من ذلك، إلى استنطاق ما وراء الصورة من خلال ما بعد المرئي والحسي، ليحمل الماوراء بعده الوجودي بمكوناته الثلاثة: الإبستيمي والأنطولوجي والوظيفي؛ فتغدو اللوحة لديه لها دلالتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية فضلا عن قيمتها الفنية والجمالية. فهي مكون حقيقي من مكونات هوية هذا الفنان التشكيلي، التي لا تنفصم عن هوية المجتمع الذي ينتمي إليه. ومن ثمة تنطلق تيمات لوحاته من ذاكرة فاس الحضارية والإنسانية. فهو يشترك والفنان عبد العالي بلال الطفولة في هذه المدينة العتيقة مع فارق الأمكنة، وحيثيات حدثية الأزمنة، بل يتقاسمان المولد فيها، والتشبع بتقاليدها وطقوس الحياة فيها، ويتشاطران الحنين إليها، للتعبير عنها من خلال اللون والفرشاة والمادة الخام، التي تؤسس بناءات أعمالهما الفنية.
فمدينة فاس وذاكرتها التراثية والمعمارية تمثل الحقل الخصب لاستلهام الفنان لتيماته التشكيلية، من خلال الأزقة الضيقة والدروب المنعرجة، والأبواب الكبيرة والصغيرة، والرياض وأحواض مياهها المتدفقة في نافوراتها، وسطوحها وكتاتيبها وأسواقها وأضرحتها وزواياها وناسها وأحداث معيشها اليومي الممتد إلى أعماق التاريخ الفاسي. فيبدعها هذا الفنان التشكيلي بتقنية عالية، ترتكز أساسا على تثبيت الزمن ووقعه الفيزيقي والفضائي على الشخوص والأشياء والأمكنة والأحداث؛ ليعيش المشاهد والناقد اللحظة التاريخية لسكونية الزمن حين المشاهدة الأولى للوحة، والتي ما تنفك أن تنقل المشاهد والناقد إلى ما وراء الثبات من حركة وتفاعل بين مكونات المشهد التشكيلي. وبذلك تتحرك السكونية الزمانية إلى الانفعال بالحدث التشكيلي، مما يشكل معه عنصر الضوء وشاعريته الجمالية وشكلية انبعاثه وآثاره في فضاء لوحة محمد كريش المقوم الأساس في عمله التشكيلي الإبداعي.
فالضوء عند هذا الفنان يحول اللوحة فضاء حيا، مشبعا بواقعية المشهد التشكيلي من وحي الزمن المندثر في ذاكرة المدينة العتيقة، المستهلك في الماضي، الهالك في الحاضر، المسترجع من فناءات التأثيث الجماعي للذاكرة الثقافية والتاريخية والحضارية والمعمارية لمدينة فاس. المنبعث في لوحات فناننا المبدع في صيغ لونية وجمالية تحفظ للمدينة معطاها الدلالي والسيمولوجي، المعبر عن الهوية الإسلامية والعربية للإنسان المغربي، بما تحمل من تفاعل اجتماعي في السوق والضريح والموسم والزقاق والفندق التقليدي وغيرها من الفضاءات التقليدية الفاسية. حيث تتشكل الهوية التشكيلية في مستويي الذات والموضوع؛ ففي مستوى الذات؛ نجد المعالم التشكيلية الكبرى للفنان محمد كريش حطت رحالها في رحاب المدرسة الواقعية ضمن أسلوب تشكيلي خاص به، نبع من الحالة التراكمية والتفاعلية لمساره الفني والثقافي، ومن صراع وعيه بذاته مع الآخر بما يحمل الآخر من دلالات مفارقة لأنا الفنان، ومن عوالم الآخر اكتسب ما يميزه عنه، ويغني هويته التشكيلية. وأما في مستوى الموضوع، فإن تيمات الفنان تقبع في عالم التراث المغربي خاصة مدينة فاس، وهي تتجلى بصورة واضحة ومكشوفة في لوحاته المعروضة. وتأبى إلا أن تكون هي كما هي لا كما يريدها الآخر، وعليه كانت هذه اللوحات مدخلا للآخر لاكتشاف عوالم الهوية المغربية بأبعادها الإسلامية والعربية والإنسانية، من خلال إعادة صياغة واقعها بشكل أكثر فلسفة وتشكيلية وإبداعية.
فالفنان محمد كريش بمعطى لوحاته الفنية إزاء زملائه، يحفظ على المدينة الفاسية ذاكرتها الثقافية كما يؤرخ لحقب تاريخية عاشتها المدينة سواء بتثبيت الأحداث أو الشخوص أو الأمكنة أو الأزمنة على فناء اللوحة، أو بتحريك عمقها نحو سؤال الهوية بما يحمل من دلالة فلسفية أو بما يستدعي الحفر بالرؤية والتقنية في أعماق فاس العتيقة التاريخية والحضارية! فهو فنان غائر المعنى .
عود على بدء:
للذاكرة الجمعية كما الفردية وعيها بذاتها وبالآخر وبسياق وجودها وحضورها في الحدث، وهي في معرض هؤلاء الفنانين تأبى إلا أن تكون واعية بذاتها، وبسياق وجودها، وبحضورها بكل مميزاتها وخصائصها وتلاوينها وتفرداتها؛ لتعبر بصدق عن مدينة فاس العتيقة، التيمة الكبرى التي نحثث منها أغلب تيمات اللوحات المعروضة. نتمنى أن يحظى الرواق الاستشراقي بفاس بالزيارة والقراءة المختلفة عن هذه القراءة، من أجل استشفاف خصوصيات فنانينا التشكيليين. فهم معلمة في سماء هذه المدينة الساكنة وراء أسرارها.
رؤية عبد العزيز قريش
مفتش تربوي

مشاهد من المعرض

للفنان عبد المالك العلوي لوحة للفنان عبد العالي بلال

ذاكرة فاس العتيقة بعيون فنانينها التشكيليين C4d92d67-f05e-7a0a

ذاكرة فاس العتيقة بعيون فنانينها التشكيليين C4d92d67-f05e-7a0a

لوحة للفنان حسن العلوي لوحة للفنان محمد كريش