مَن هي أم سلمة ؟
أمّ سَلَمة: هند بنت أبي أُميّة حُذَيفة بن المُغيرة القرشيّ.
أمّها: عاتكة بنت عامر بن ربيعة الكِنانيّ. زوجها الأوّل: أبو سَلَمة عبدالله بن عبدالأسد المخزوميّ. أولادها: سَلَمة، وعمر. بناتها: دُرّة، وزينب.
وقد بادر أبو سلمة وزوجته أمّ سَلَمة إلى تلبية نداء الإسلام، فكان بيتهما من البيوت الأوائل التي دخلها نور الدين الجديد.
المحنة
مارَسَت قريشٌ إيذاءها الشديد للمسلمين الأوائل، فأمرهم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بالهجرة إلى الحبشة، فكان أبو سَلَمة وزوجته في الرَّعيل الأوّل من المهاجرين فارِّين بدينهم ليِمارسوا شعائره بحريّة وأمان، لا سيّما وقد وجدوا من لدن النجاشيّ ملك الحبشة ترحيباً طيّباً مدّةً من الزمن.. حتّى وافَتْهم أنباءٌ تقول بأنّ قريشاً رَفَعت أذاها عن المسلمين، فعادا إلى مكّة وإذا الواقع شيء آخر، إذ وجدا قريشاً تُخرج المستضعفين إلى الرَّمضاء بعد تجرّيدهم من ثيابهم وإلقائهم على الأرض، محمّلةً لهم قُلَل الصخور، أو تخنقهم بالماء.
وكاد أبو سلمة أن يقع ـ مع زوجته ـ في هذا الفخّ لولا أنّه استجار بخاله أبي طالب شيخ البطحاء عليه السّلام، فطالبت به قريش إلاّ أنّ أبا طالب أبى قائلاً لهم: إنّه استجار بي. وتمرّ الأيّام والأعوام.. فيأمر اللهُ تعالى بالهجرة إلى المدينة، فيكون أبو سلمة وزوجته من أوائل المسلمين الملبّين لهذه الهجرة ومعهما ولدُهما سَلَمة، إلاّ أنّ قريشاً تَتَصدّى لهم فتأسر أمَّ سَلَمة وابنها.. وقصّة ذلك ترويها لنا هذه المرأة المؤمنة أم سلمة، حيث تقول:
لمّا أجمع أبو سَلَمة الخروج إلى المدينة، رحّل بعيراً له وحَمَلني وحَمَل معي ابني سَلَمة، ثمّ خرج يقود بعيره، فلمّا رآه رجالٌ مِن بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غَلَبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه علامَ تُترك تسير بها في البلاد ؟ ونَزَعوا خِطام البعير من يده وأخذوني. وغَضِبَتْ عند ذلك بنو عبدالأسد وأهوَوا إلى سلمة وقالوا: لا واللهِ لا نترك ابنَنا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا. فتجاذبوا ابني " سلمة " حتّى خَلَعوا يده، وانطلقوا به بنو عبدالأسد رَهط أبي سلمة، وحَبَسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتّى لحق بالمدينة، ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني.
تستمرّ أمّ سلمة في بيان محنتها، فتقول:
فكنتُ أخرُج كلَّ غداةٍ فأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتّى أُمسي، سنةً أو قريبَها..
حتّى مرّ بي رجلٌ من بني عمّي من بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخرجون هذه المسكينة ؟! فَرَّقتُم بينها وبين زوجها وبين ابنها. فقالوا لي: إلحَقي بزوجِك إنْ شئتِ. وردّ علَيّ بنو عبدالأسد عند ذلك ابني، فرَحَلْتُ بعيري ووَضَعتُ ابني في حِجْري، ثمّ خَرَجتُ أُريد زوجي بالمدينة، وما معي أحدٌ من خَلْق الله، حتّى إذا كنتُ بـ " التَّنعيم " لَقِيتُ عثمانَ بن طلحة بن أبي طلحة.. فأخذ بخِطام البعير فانطلق معي يقودني... حتّى قَدِم بي إلى المدينة، فلمّا نظر إلى قريةِ بني عمرو بن عَوف بقَباء قال: زوجكِ في هذه القرية. وكان أبو سلمة نازلاً بها، فدخلتُها على بركة الله تعالى
(1).
حوار للمستقبل
قالت أمّ سلمة يوماً لزوجها أبي سلمة: بَلَغَني أنّه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنّة، ثمّ لم تتزوّج بعده، إلاّ جمَعَ اللهُ بينهما في الجنّة، وكذا إذا ماتتِ امرأةٌ وبقيَ الرجل بعدها.. فتعالَ أُعاهِدْك أن لا أتزوّجَ بعدك، ولا تتزوّجَ بعدي
(2).
يُكْبِر أبو سلمة هذه العلاقةَ الطيّبة، ولكنّه ينظر في بُعدٍ آخر، فيسأل أمَّ سلمة: أتُطيعيني ؟ قالت: ما استأمرتُك إلاّ وأنا أريد أن أُطيعك. قال لها: فإذا مِتُّ فتَزَوّجي. ثمّ قال: اللهمّ ارزق أمَّ سلمة بعدي رجلاً خيراً منّي، لا يُخزيها ولا يُؤذيها.
قالت أم سلمة: فلمّا مات أبو سلمة قلت: مَن هذا الذي هو خيرٌ لي من أبي سلمة ؟! فلبثتُ ما لبثتُ، ثمّ تزوّجني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله
(3).
أجل، كان ذلك بعد أن جاهد أبو سلمة في طليعة جيشِ الإسلام، فأصابه سهمٌ ترك له جرحاً بليغاً، ثمّ عَقَد له رسولُ الله صلّى الله عليه وآله على مئةٍ وخمسين مقاتلاً لردّ عدوانٍ أعدّه بنو أسد، فقاتلهم وطلب الفارّين منهم وعاد بالنصر، إلاّ أنّ آلامه من جراحه يوم بدر عادت إليه، فيقضي هذا المجاهد بخاتمةٍ شريفة.
وتتذكّر أمُّ سلمة ما سمعَتْه من أبي سلمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال يوماً: لا يُصيب أحداً مصيبةٌ فيسترجع عند ذلك ويقول: اللهمّ عندك أحتَسِبُ مُصيبتي هذه، اللهمّ اخلُفْني فيها خيراً منها.. إلاّ أعطاه اللهُ عزّوجلّ.
قالت أمّ سلمة: فلمّا أُصِبتُ بأبي سلمة قلت: اللهمّ عندك أحتَسِب مصيبتي هذه. ولم تَطِب نفسي أن أقول: اللهمّ اخلفني فيها بخيرٍ منها. قلت: مَن خيرٌ مِن أبي سلمة ؟! أليس ؟! أليس ؟!
ولمّا انقَضَت عِدّتُها أرسل إليها أبو بكرٍ يخطبها فأبَت، ثمّ أرسل إليها عمر يخطبها فأبَت، ثمّ أرسل إليها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يخطبها، فقالت: مرحباً برسول الله صلّى الله عليه وآله
(4).
وكان ذلك في شوّال سنة 4 للهجرة النبويّة المباركة.
في البيت النبويّ
أنهَتْ أمُّ سلمة قرابة سبع سنوات مع رسول الله صلّى الله عليه وآله على أحسن ما يكون، ولم يذكر التاريخ شيئاً يَشين كرامتَها، بل كلُّ ما ذُكر عنها كان محموداً. وقد كانت هذه المرأة الصالحة حريصةً على الاستماع ـ ببصيرةٍ ـ لكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله، فكان لا يفوتها شيء منه، تُنصت له بشوق الإيمان، وتُقبل عليه بالتصديق والعمل به، وتتوجّه بقلبها وعقلها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله كلّما تكلّم أو قال: أيّها الناس..
فقامت يوماً في حجرتها فسَمِعَتْه يقول:
أيّها الناس، بينما أنا على الحوض جيء بكم زُمَراً، فتفرّقَتْ بكمُ الطرق! فناديتُكم:
ألاَ هلمّوا إلى الطريق. فناداني مُنادٍ من بعدي فقال: إنّهم قد بَدَّلوا بعدك. فقلت: ألا سُحقاً سحقاً!
(5).
وقد تصدّر اسمُ أمِّ سلمة في معاجم الحديث تروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.. قال ابن حَجَر: رَوَت أمّ سلمة عن: النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعن أبي سلمة بن عبدالأسد، وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله. وعنها روى: ابناها عمر وزينب ( ابنا أبي سلمة )، ومُكاتِبُها بَنهان، وأخوها عامر بن أبي أُميّة، وابن أخيها مصعب بن عبدالله بن أبي أُميّة، ومَواليها: عبدالله بن رافع، ونافع، وسَفينة. روى عنها كذلك: أبو كثير، وابن سفينة، وخيرة أم الحسن البصريّ، وسليمان بن يسار، وأُسامة بن زيد بن حارثة، وهند بنت الحارث الفراسيّة، وصفيّة بنت شيبة، وأبو عثمان النَّهديّ، وحميد وأبو أُسامة ابنا عبدالرحمان بن عوف، وسعيد بن المُسيّب، وأبو وائل، وصفيّة بنت محض، والشعبيّ، وعبدالرحمان بن أبي بكر، وعبدالرحمان بن الحارث بن هشام، وابناه عِكْرمة وأبو بكر، وعثمان بن عبدالله بن موهب، وعروة بن الزبير، وكُرَيب مولى ابن عبّاس، وقُبَيصة بن ذُويب، ونافع مولى ابن عمر، ويَعلى بن مملك.. وآخَرون
(6).
وقال الذهبيّ: يبلغ مُسند أمّ سلمة 378 حديثاً
(7)، وهذه منقبة من مناقبها الكبيرة امتازت بها، فقد روت عيون الأحاديث تحرّت فيها الدقّة والأمانة، وركّزت على أسس الإسلام ودعائمه ومؤكَّداتِ وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وكان لأمّ سلمة مكانتها العلميّة العالية، فضلاً عن مواقفها الرساليّة، حتّى قالت عائشة لها: يا بنتَ أبي أُميّة، أنتِ أوّلُ مهاجرةٍ من أزواج رسول الله، وأنتِ كبيرة أمّهات المؤمنين، وكان رسول يقسم لنا من بيتك، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك
(.
أي من بين بيوت نسائه صلّى الله عليه وآله في المدينة. إلاّ أنّ أمّ سلمة لم يُعرَّف بمكانتها كما هي عليه؛ لأنّها ثبتت على حقائق الخلافة الحقّة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، مستندةً إلى آياتها المباركة وأحاديثها الشريفة.. فواجهت القوم بحقائق لا يرغب فيها أكثرُهم، وتَصَدّت للتعريف بدلائل الإمام الواجب تَوَليّها، وواجَهَت المُبغضين لآل البيت النبويّ الشريف.
مواقف شامخة
لأمّ سَلَمة تاريخ عريق في التعرّف على الإسلام وعقائده الحقّة وقيمه العليا، وفي الجهاد والهجرة والصبر والعمل وفق تعاليم الرسالة الإسلاميّة، وقد ساءها أن يتدخّل بعض الصحابة في شؤون زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله، فوقعت بينها وبين عمر بن الخطّاب مُشادّةٌ ذكرها ابن سعد في كتابه ( الطبقات الكبرى 137:8 ) هكذا:
أنّ عمر دخل على أمّ سلمة فقال: يا أمَّ سَلَمة، وتُكلِّمْنَ رسولَ الله وتُراجِعْنَه في شيء ؟ فقالت أمّ سلمة: واعَجَباه! وما لَكَ والدخولَ في أمر رسول الله ونسائِه ؟! واللهِ إنّا لَنكلّمُه، فإن حَمَل ذلك كان أولى به، وإن نهانا كان أطوعَ عندنا منك.
قال عمر: فنَدِمتُ على كلامي لنساء النبيّ بما قلت.
وفي رواية أخرى قالت له: عَجَباً لك يا ابنَ الخطّاب! قد دَخَلتَ في كلّ شيء، حتّى تبغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه!
(9).
وكأنّ عزّتها جَعَلتها تُنكر هذا التدخّل، فهي أمّ المؤمنين وقرينة رسول الله صلّى الله عليه وآله. أو أرادت أن تُنبّه أنّ لكلّ شخصٍ حدّاً لا يحقّ له تجاوزه. أو أرادت أن تعلّمَ نساءَ النبيّ صلّى الله عليه وآله أن لا يَسمحنَ لأحدٍ أن يتحدّث إليهنّ بهذا أو شبهه، حتّى يجرّهنّ إلى ما لا تُحمد عُقباه، وقد قال تعالى يخاطبهنّ: يا نِساءَ النَّبيِّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِن النِّساءِ إنِ آتّقيتُنّ فلا تَخْضَعْنَ بالقَولِ فيَطمَعَ الذي في قَلبهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَولاً معروفاً
(10).
عاشت أمّ سلمة أحداث صدر الإسلام بوعيٍ وبصيرة، وشهدت ما كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وهي تتذكّر ما جاء به الوحيُ قبل ذلك، قولَه تعالى: وما محمّدٌ إلاّ رسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أفَإنْ ماتَ أو قُتِلَ آنقَلَبْتُم على أعقابِكُم! ومَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وسيَجزي اللهُ الشاكرين
(11).
روى البلاذريّ في كتابه ( أنساب الأشراف 586:1 ): أنّ أبا بكرٍ أرسل إلى عليّ ابن أبي طالب عليه السّلام يريد البيعةَ منه، فلم يبايع، فجاء عمر ومعه فَتيلة، فتَلقَّتْه فاطمةُ على الباب فقالت له:
ـ يا ابنَ الخطّاب! أتُراكَ مُحَرِّقاً علَيّ بابي ؟!
قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوكِ ! )
وأُخرِج الإمام عليّ عليه السّلام من البيت بحمائل سيفه، وعانَت الصدّيقة الزهراء عليها السّلام ما عانت من تعسّفات بعض الصحابة، فأدلَتْ بخُطبتَيها اللتينِ كشفتا حقائقَ كبرى. ولم يجرأ أحدٌ ـ إلاّ القليل ـ على استنكار ما كان يجري من التطاول على حرمات البيت النبويِّ الشريف.. وكان من ذلك القليل " أمُّ سَلَمة " رضوان الله عليها، فصاحت بأبي بكر ـ وقد تجاسر على مقام الزهراء صلوات الله عليها:
ـ ألِمِثْلِ فاطمةَ يُقال هذا ؟! وهيَ ـ واللهِ ـ الحوراء بين الإنس، والآنَسُ للنفس، تَرَبَّت في حجور الأنبياء، وتناوَلَتْها أيدي الملائكة، ونَمَتْ في المَغارس الطاهرات، ونَشأتْ خيرَ مَنشأ، ورُبِّيتْ خير مَرْبى. أتزعمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حَرَّم عليها ميراثَه ولم يُعْلِمْها ؟! وقد قال اللهُ تعالى: وَأنْذِرْ عشيرتَكَ الأقْرَبِينَ (12)، فأنذرها، وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان، وأمّ سادة الشبّان، وعديلة ابنة عِمران، وحليلة ليث الأقران، تمّتْ بأبيها رسالاتُ ربّه، فوَاللهِ لقد كان يُشفق عليها من الحَرّ والقَرّ، فيُوسِّدُها بيمينه ويدُثِّرها بشماله. رُوَيداً! فرسول الله صلّى الله عليه وآله بمرأى لأعينكم، وعلى الله تَرِدون، فواهاً لكم! وسوف تعلمون
(13).
ويتصدّى عثمان بن عفّان للحكم، وتبدر منه بوادر غريبة تُنتج ثورةً في وجهه يقودها عددٌ كبير من الناقمين يمثّلون وجوه الصحابة الكبار من المهاجرين والأنصار. وكانت أمّ سلمة هي الأخرى معارضةً للانحراف، ولكنّها كانت في الوقت ذاتِه حَذِرةً من الفتن والتحريضات والتناقضات التي وقعت فيها عائشة التي كانت أوّلَ أمرها تُخرج قميصَ رسول الله صلّى الله عليه وآله للناس وتقول: هذا قميصُ رسول الله لم يَبْلَ وعثمانُ قد أبلى سُنّتَه! ثمّ تقول: اقتُلوا نَعْثلاً فقد كفر، اقتُلوا نعثلاً، قَتَل اللهُ نعثلاً!
(14) فإذا بُويع أميرُ المؤمنين عليٌّ عليه السّلام صاحت عائشة: قُتل عثمان مظلوماً، واللهِ لأُطالبنّ بدمه، فقوموا معي! فعارضها عبيد بن أمّ كلاب قائلاً: لِمَ تقولين هذا ؟! فوَاللهِ لقد كنتِ تُحرّضين عليه وتقولين: اقتلوا نعثلاً قتلَه اللهُ فقد كفر!
(15).
إلاّ أنّ أمّ سلمة كانت مُستنكرةً للمنكر، وفي الوقت ذاته لم تُثِرْ فتنةً بين المسلمين، بل قابَلَتْ عثمانَ قائلةً له:
ـ يا بُنيّ، مالي أرى رعيّتَك عنك نافِرين، وعن جَناحِك ناقِدين. لا تَعِفْ طريقاً كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يُحبّها، ولا تَقتَدحْ بزَنْدٍ كان عليه السّلام أكْباه..
(16) ومن هنا وصفها ابن حجر بالعقل البالغ والرأي الصائب
(17)، وعبّر اليافعيّ خلال تعريفه بها أنّها كانت امرأةً عاقلة
(18)، وعبرّ السيّد محسن الأمين العامليّ بأنّها كانت مِن أعقل النساء
(19)، وقال الأستاذ محمّد زكي بيضون:
لقد عالجَتِ الحياة، وجاهدت في سبيل الإسلام في البدء والختام، ولم يفارقها العقل في معالجة الأمور حين كان يدفعها الواجب إلى العمل(20). وكتب الدكتور علي إبراهيم حسن: من أشرف نساء العرب نسباً، وأكرمهنّ أصلاً، وأبعدهنّ نظراً، وأحزمهنّ رأيّاً.. أمّ سَلَمة. كانت ذات حلمٍ ورأي وأناة، ولم تكن مِثْلَ عائشة في حماستها وغيرتها، بل لم تفارقْها حَصافتها وحكمتها في أشدّ المحن والخطوب. وعندما أحسّت أمُّ سلمة أنّ عائشة تشجّع على قتالِ عليّ بن أبي طالب، لامَتْها على عملها، وحاوَلَت جاهدةً أن تُصلح ما شبّ من خلاف، ولكنِ اشتعلت نيران الحرب ووقعت موقعة الجمل، ولو أنصَتَتْ عائشةُ لنصيحة أمّ سلمة لمَا حدث شيءٌ مِن هذا
(21).
روى الشيخ المفيد عن أبي كيسة ويزيد بن رومان قالا:
لمّا اجتمعت عائشة على الخروج إلى البصرة، أتَتْ أمَّ سلمة رضي الله عنها ـ وكانت بمكّة ـ فقالت: يا بنتَ أبي أُميّة، كنتِ كبيرة أمّهات المؤمنين، وكان رسول الله يَقْمُؤ ( أي يدخل ) في بيتِك، وكان يقسم لنا في بيتك، وكان ينزل الوحي في بيتك. قالت أمّ سلمة: يا بنتَ أبي بكر! لقد زُرْتِني وما كنتِ زَوّارة! ولأمرٍ ما تقولين هذه المقالة!
قالت: إنّ ابني وابن أخي أخبراني أنّ الرجل ( أي عثمان ) قُتل مظلوماً، وأنّ بالبصرة مئةَ ألفِ سيف يُطاعُون، فهَل لكِ أن أخرج أنا وأنتِ، لعلّ الله أن يُصلح بين فئتينِ متشاجرتين ؟! فقالت لها أمُّ سلمة: يا بنت أبي بكر! أبِدمِ عثمان تطلبين ؟! فلقد كنتِ أشدَّ الناس عليه، وكنتِ لَتدعينه بالتبرّي، أم أمرَ ابنِ أبي طالبٍ تنقضين ؟! فقد تابَعَه المهاجرون والأنصار.. إنّكِ سدّةٌ بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وبين أُمّته، وحجابةٌ مضروبة على حَرَمه، وقد جمع القرآنُ ذيلَكِ فلا تَبْذَخيه، وسَكِّني عُقَيراكِ ( أي مَقامك ) فلا تُضَحّي بها.. اللهُ مِن وراء هذه الأمّة، قد عَلِم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله مكانَكِ، ولو أراد أن يَعهدَ إليكِ فعل، قد نهاكِ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عن الفراطة في البلاد ( أي عن السفر والذهاب والإياب ).. أُقسم بالله، لو سِرتُ مَسيرَكِ هذا ثمّ قيل لي: ادخُلي الفردَوس، لاَستَحيَيتُ أن ألقى محمّداً صلّى الله عليه وآله هاتكةً حجاباً قد ضَرَبه علَيّ. اجعلي حِصنَكِ بيتَك، وقاعة الستر قبرَك، حتّى تلقيه وأنتِ على ذلك أطوَع.
ثمّ ذكّرتْها بخمس فضائل للإمام عليٍّ صلوات الله عليه، وهي قول رسول الله صلّى الله عليه وآله:
ـ أتبغضيه ؟! فما يَبغضُه أحدٌ من أهلي ولا مِن أُمّتي إلاّ خرج من الإيمان.
ـ ليت شِعري أيّتُكُنّ صاحبة الجَمل الأدَبّ، تَنبَحُها كِلابُ الحَوْأب ؟!
اتّقي اللهَ ـ يا حُمَيرا ـ أن تكونيه.
ـ أتظنّين ـ يا حميرا ـ أنّي لا أعرفك، أما إنّ لأمّتي منك يوماً مُرّاً!
ـ يا نسائي، اتَّقينَ الله ولا يُسفِرْ بكنّ أحدٌ.
ـ وكان صلّى الله عليه وآله قد سُئل أن يجعلَ إنساناً بعده يرجع إليه المسلمون، وسألته أمُّ سلمة بعد أن لم يُجِب، فقال لها: خاصِف النعل. وكان عليٌّ عليه السّلام يُصلح نعلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله.. فقالت أمّ سلمة: ما أرى إلاّ عليّاً، فقال صلّى الله عليه وآله: هو ذاك.
ذكّرَتْها أمُّ سلمة بكلّ ذلك وهي تقول لها: أتذكرين هذا يا عائشة ؟ فتُجيب عائشة: نعم. ثمّ قالت لأم سلمة: ما أقبَلَني لوعظِكِ، وأسمَعَني لقولِكِ.. إلاّ أنّها خَرَجت، وخرج رسولُها فنادى: مَن أراد أن يسير فليسِرْ؛ فإنّ أمّ المؤمنين خارجة..
(22) وحاوَلَت أمُّ سلمة ـ جاهدةً ـ أن تَقبُر الفتنة، مرّةً تَعِظ عائشة وتذكّرها وتحذّرها، ومرّةً تُراسلها، ومرّةً تبعث إلى رهطٍ من المهاجرين والأنصار تنبّههم من طلحة والزبير.. فلم ينفع كلُّ ذلك
(23).
فلمّا يئست وجَدَتْ نفسَها مكلّفةً بنُصرة إمامها، فكتبت إلى أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام: أمّا بعد، فإنّ طلحة والزبير واشياعَهم أشياعَ الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم عبدالله بن عامر بن كُرَيز، ويذكرون أنّ عثمان قُتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه، واللهُ كافيهم بحوله وقوّته. ولولا ما نهانا اللهُ عنه من الخروج، وأمَرَنا به لزومَ البيت.. لم أدَعِ الخروجَ إليك والنُّصرةَ لك، ولكنّي باعثةٌ نحوك ابني عِدْلَ نفسي عمرَ بنَ أبي سلمة، فاستَوصِ به ـ يا أمير المؤمنين ـ خيراً
(24).